الكومبيوتر الذي يتعلم من أخطائه: هل يهزم «تشيس براين» أبطال الشطرنج وينتقم للأجهزة الأخرى؟
«تشيس براين» مشروع عملاق يسخّر نتائج أبحاث الذكاء الاصطناعي ومئات الأجهزة المتصلة على الإنترنت لتحليل الأوضاع والحركات وفهم استراتيجيات اللعب
لوس أنجليس: ستيف تشاوكنز *
في الوقت الذي احتدم فيه اللعب بين بغزيلا وفينومس، كان المبرمج القوي والرقيق يراقب اللعبة من شقته في نيوبري بارك بولاية كاليفورنيا. فلدى كارلوس جستنيانو تسعة كومبيوترات مصفوفة على طاولة مواجهة لسريره ذي القوائم العالية. وقد كرس جستنيانو، الذي لا ينام أكثر من أربع ساعات في اليوم، نفسه لمشروعه المفضل الذي ينمو سريعا، وهو شبكة عالمية من أجهزة الكومبيوتر التي يأمل في أن تقوم يوما بلعب مباراة حاسمة في الشطرنج.
ويصف جستنيانو شبكة الكومبيوتر تلك بأنها ستكون الأكبر من نوعها للعب الشطرنج على الإطلاق. لكنها، وبالإضافة إلى ذلك، ستكون مصدرا تعليميا للجامعات وحقلا للباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي. وملثما الحال بالنسبة إلى «ديب بلو» ((Deep Blue، كومبيوتر «آي بي إم»((IBM ي السمعة العريقة، فستتحدى تلك الشبكة أفضل لاعبي الشطرنج في العالم، إلا أنها وخلافا لكومبيوتر «ديب بلو» ستتعلم من أخطائها بنفسها.
وتتسم تلك المهمة بالرهبة، فالرقم الذي يمثل مجموع الحركات الممكن حدوثها في لعبة شطرنج عادية يشبه تلك الأرقام التي تستخدم عادة في وصف الأبعاد في النظام الشمسي، فهو، حسب بعض الرياضيين، 10 يليها 43 صفرا! وفي العام 1997 تمكن «ديب بلو» (Deep Blue ) من هزيمة غاري كاسباروف بطل العالم في الشطرنج آنذاك، لكن، وبصرف النظر عن عدد المحاولات المبذولة فلم تتمكن أية مجموعة من المتطوعين الأذكياء من بناء شبكة قادرة على المنافسة. ويقول جستنيانو، البالغ من العمر 37 عاما: «إن تلك الشبكة ضخمة جدا، والطريقة الوحيدة لتنفيذها هي إيجاد الوقت». في النهار يمارس جستنيانو عمله كمسؤول هندسة البرمجيات في شركة «أميريكان إم إس آي» American MSI)) الصناعية الواقعة في موربارك بولاية كاليفورنيا، وفي الليل يتناول عشاءه مع زوجته كارلا ويلعب مع طفلته كايتلين البالغة من العمر 5 سنوات قليلا قبل أن يشغل أجهزة الكومبيوتر ويبدأ العمل على شبكته النامية التي سماها «تشيس براين» ChessBrain) )أو عقل الشطرنج
www.chessbrain.net)) .
وتطوع أكثر من 300 من المهتمين المتحمسين من 25 دولة عبر الإنترنت للمساعدة، بأن حمّل كل منهم برنامجا يسخّر جزءا يسيرا من قوة أجهزتهم من أجل هذه القضية. وبينما يقوم هؤلاء المتطوعون، الذين يمكن تسميتهم بمشغلي الأطراف المشتركة في الشبكة Node Operators))، بتصفح الإنترنت أو إرسال البريد الإلكتروني لأصدقائهم أو يعملون على برامج الكومبيوتر المختلفة، تنساق أجزاء خفية من أجهزتهم إلى موقع شطرنج على الإنترنت لتراقب مجموعة من ألعاب الشطرنج التي يتم لعبها. وبينما كان «ديب بلو» كومبيوترا منفردا فائق السرعة، تمثل شبكة «تشيس براين» مثالا على الحوسبة الموزعة (Distributed Computing)، وهو نظام يستجلب القوة من مجموعة من أجهزة الكومبيوتر المرتبطة ببعضها، يتم استخدامه في محاولات عملية تتراوح بين حل الألغاز الرياضية والتحقق من أية إشارات قد تكون دالة على وجود حياة في الكون. وفي يوم، أبدت شبكة جستنيانو تركيزها على لعبة كان يقوم فيها لاعب اسمه بغزيلا بالقضاء على آخر وهو فينومس، وكانت الشبكة تحلل حركاتهم الذكية والغبية وخططهم الرائعة والضعيفة. ومثل الدقائق المجهرية التي يتغذى عليها العقل، يراقب العقل الشطرنجي «تشيس براين» في يوم العمل الاعتيادي أكثر من مليون موضع ويستوعبها، ومنذ أن بدئ بالمشروع قبل عدة أشهر تمت معالجة أكثر من 39 مليون موضع في كومبيوتر مركزي. وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسيتمكن "تشيس براين" بنفسه من بدء اللعب في وقت متأخر من هذا العام، متحديا أمثال بغزيلا بمساعدة برنامج شطرنج معقد. وأخيرا يتصور جستنيانو الباحثين وهم يجرون التجارب على الشبكة ويطورون برامج قادرة فورا على استقصاء أخطائها السابقة وتدارسها. وفي الأثناء يستوعب مخزن افتراضي كل الحركات من الألعاب التي سيلعبها «تشيس براين» مع الناس الضعفاء والأجهزة الذكية على السواء.
ويقول ستينيانو إن كيفية اللعب ليست هي المسألة، فنمو مئات الكومبيوترات على شبكة «تشيس براين» لتصير آلافا من الأجهزة الأكثر قوة سيحسن من أداء اللعب، والأهم كما يقول، أنه سيزيد من قدرة الشبكة على التفكير في خسائرها واستنتاج استراتيجيات الفوز من واقع الخسارة. ويضيف جستنيانو: «لم يكن لدى «ديب بلو» أية فكرة عما كان يقوم به، إذ كان لديه حجم هائل من المعلومات المختزنة، فقد كان «ديب بلو» يُغذى بكل لعبة لعبها كاسباروف في البطولات، وكان لديه لاعبون أبطال ومستشارو شطرنج يُملون عليه الطريقة التي سيهزم بها كاسباروف. هذا الأمر مختلف جدا عن جهاز يتعلم من تلقاء نفسه كلما مارس اللعب». وطبقا للخبراء فإن هدف جستنيانو جريء. فعلى سبيل المثال، يقول آندي برنس، الناطق باسم «يونايتد ديفايسز» (United Devices)، وهي شركة مقرها أوستن بتكساس وتُعنى بربط أنظمة الحوسبة الموزعة لحل المشاكل المعقدة في حقول مثل البحوث المالية والعلاجية: "إنها فكرة رائعة، لكنها تثير بعض التحديات التقنية الحقيقية; فالأوضاع في الشطرنج معقدة جدا إلى حد أنه قد لا يمكن تجزئتها إلى أجزاء بسيطة تكفي لتقوم مئات أو آلاف الكومبيوترات بمعالجتها بفاعلية، كما أن تعلم الأجهزة من تلقاء نفسها لا يزال حقلا جديدا نسبيا».
ويقول مونتي نيوبورن، أستاذ علوم الكومبيوتر في جامعة «ماكغيل» McGill University)) في مونتريال الذي نظم المباراة الأولى بين كاسباروف و«ديب بلو»: «بالتأكيد فإن «ديب بلو» لم يتعلم، لكنني أشك في أن شبكة جستنيانو ستتعلم أي شيء ما عدا بعض البديهيات. لقد حاول الناس أن يجعلوا الكومبيوترات تتعلم، لكنهم حققوا نجاحات متوسطة المستوى ليس إلا».
ويوافق روبرت هيات، مبتكر برنامج ربح مرتين في بطولات شطرنج عالمية، على أن جعل الكومبيوتر يتعلم حتى بالطريقة التي يفعل بها أغبى تلميذ أو حتى مثل بوبي فيشير، الذي كان في وقت مضى أصغر بطل شطرنج عالمي، يمثل طريقا طويلة وبعيدة جدا. لكن يمكن لشبكة مثل «تشيس براين» تتمتع بقوة الحوسبة الهائلة فعلا، أن تكون أداة مفيدة للباحثين. ويقول هيات، الذي يدرّس علوم الكومبيوتر في جامعة ألاباما University of Alabama)
«المجال مشرع على اتساعه، ويمكن أن يكون هناك الكثير من التجارب الآنية عليه والتي تتعامل مع مسألة تعلم الأجهزة».
أما جستينيانو فيقول إن ذلك بالضبط هو ما يريده، فقد أنفق حتى الآن أكثر من 30 ألف دولار في المشروع، زاعما أنه لا ينوي الحصول على أي عائد مادي من ورائه، لكنه يأمل أنه سيحسن سمعته المهنية. ويقول: «قد أحصل على منزل وأعيش كما الناس العاديون أو ربما أتحمل مخاطرة لا تصدق، لكنني أرمي إلى شيء كبير جدا». وكبر جستنيانو وترعرع في ساوث برونكس بنيويورك واهتم منذ نعومة أظفاره بالرياضيات، وفي سن السابعة أصبح مولعا بالشطرنج. ثم، وكمراهق، سُحر بالأفلام القديمة مثل «2001: أسبيس أوديسي» (2001: A Space Odyssey) وكومبيوتر الفيلم «هال 9000» HAL 9000). ) وفي ما بعد، بدأ يصمم الألعاب وبرامج الكومبيوتر لكل من الشركات الناشئة والقديمة مثل «آي بي إم» (IBM) .
وكذلك فقد اشترك في «سيتي آت هوم» SETI@home)) ، وهو مشروع عالمي لتحليل بيانات إشارات الراديو التلسكوبية الآتية من الفضاء الخارجي باستخدام أجهزة الكومبيوتر الخاصة بأكثر من ثلاثة ملايين متطوع. لكن وبكل عاطفته التقنية، لا يستطيع جستينيانو فهم اللغز الذي يسميه «مشكلة الحداثة»، وهو يعلق قائلا: «أتساءل عن وجود «هال»، فقد مضى العام 2001 ولم يتحقق بعد ما وعدنا به العلم».